سورة فصلت - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (فصلت)


        


{حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (2) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (4) وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8)}.
التفسير:
{حم. تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} {حم} مبتدأ، وخبره {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}.
أي أن {حم} هذه، تنزيل من الرحمن الرحيم، أي هى من كلمات اللّه وآياته.. وفى هذا ردّ على من يقول إن الحروف التي بدئت بها أوائل السور ليست من القرآن، وإنما هى إضافات ألحقت ببعض السور في الدور المكي من نزول القرآن، وقد وضعت على رأس هذه السور، لتدلّ على عدد آياتها، محسوبة بحساب {الجمل} للحروف، الذي كان معروفا للعرب.. فقد كان من تدبير النبي- كما يزعمون في هذا الدور من نزول القرآن أن يضبط عدد آيات السورة، ويقيّدها بهذه الحروف التي توضع على رأسها، حتى لا تختلط بغيرها، وذلك أن عملية كتابة الوحى لم تكن قد انتظمت، ورتب لها كتابها، وأدواتها في هذا الدور المبكّر من نزول القرآن.
وهذا الزعم، باطل من وجوه:
فأولا: أنه إن أخذ به، لا يحقق الغاية التي قيل إنه جاء من أجلها، وهو ضبط عدد آيات السورة.. وذلك أنه ليس كل سور القرآن المكي بدئت هذا البدء بالحروف المقطعة، حتى يمكن حصر كل سورة في العدد الذي تدل عليه هذه الحروف القائمة على رأس كل سورة.. وعلى هذا يمكن إذا سقطت آية أو آيات من السورة التي ضبط عددها أن يستجلب لها ما سقط منها من سورة أخرى من السور التي لم يضبط عددها.. وإذن يكون هذا التدبير، غير محقق للغرض الذي قصد منه.
وثانيا: لو صحّ هذا الزعم بأن تلك الحروف كانت لضبط عدد آيات السور في القرآن المكي- لكان من تمام التدبير أن يشمل ذلك القرآن المكي كله، بل كان أولى به، تلك السور التي كانت أول القرآن نزولا، وهذا غير وارد في القرآن.
وثالثا: إذا صح هذا الزعم أيضا، بالنسبة للقرآن المكي الذي قيل إن عملية كتابة القرآن فيه لم تكن مستكملة، ولا متوفرة الكتاب، ولا أدوات الكتابة- فإنه لا يصح في القرآن المدني، وفيه كثير من السور بدئت بالحروف المقطعة، كسورة البقرة، وآل عمران.. مثلا.
قوله تعالى: {كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}.
هو بدل من قوله تعالى: {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} بدل كل من كل.. أي هذا الذي نزل من الرحمن الرحيم، هو كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون.
وفى قوله تعالى: {مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} إشارة إلى أن منزل هذا القرآن هو اللّه سبحانه وتعالى، تجلى به سبحانه على العباد، رحمة لهم، وإحسانا إليهم.
وفى قوله تعالى: {كتاب} إشارة إلى أن هذه الرحمة المنزلة من عند اللّه كتاب، يقرأ، ويدرس، وتتلقّى منه الحكمة والمعرفة، فهو من حظ العقول والقلوب والأرواح، وليس متاعا كالأنعام ونحوها، مما هو من حظ الأبدان، والجوارح، والبطون!.
وفى قوله تعالى: {فُصِّلَتْ آياتُهُ} إشارة ثالثة، إلى أن هذا الكتاب ليس ذا موضوع واحد، شأن الكتب المعروفة، فهو ليس كتاب فلك، أو حساب، أو قصص، أو تاريخ، أو نحو هذا مما هو موضوع كل كتاب.. وإنما هو كتاب الوجود كله، يحمل بين دفتيه كل علم، وكل فن، حيث هو جامعة العلوم والمعارف كلها، لمن آتاه اللّه عقلا مبصرا، وبصيرة مشرقة، وقلبا سليما، وروحا صافية.. ففى هذا الكتاب قطوف دانية من كل علم، وثمار شهية طيبة، مختلفة الألوان والطعوم من كل فن.. وفيه يقول اللّه تعالى {إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [9: الإسراء].
ويقول الرسول الكريم: {القرآن مأدبة اللّه.. فتعلموا من مأدبته}.
إنه مأدبة سماوية، لا ينفد عطاؤها، ولا ينقص ما عليها، مهما كثرت الأيدى المتناولة منها.
وقوله تعالى: {قُرْآناً عَرَبِيًّا} حال من الكتاب، وهى حال واصفة لهذا الكتاب، وهو أنه قرآن عربى، أي يقرأ بلسان عربى.
وفى هذا امتنان من اللّه سبحانه وتعالى على الأمة العربية، وتنويه بها، ورحمة من اللّه اختصّت بها، إذ كانت هذه المأدبة ممدودة للعرب في ساحتهم، وكانوا هم أهلها، والداعين إليها.
وفى قوله تعالى: {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} حثّ للأمة العربية، أصحاب هذه المأدبة، أن يأخذوا نصيبهم الأوفى منها، وإنه لا سبيل إلى الإفادة من خيرها الممدود، إلا بالعلم، فمن كان على علم ومعرفة، كان حظه من هذا القرآن أوفى وأعظم.. ومن حرم العلم والمعرفة، فلا نصيب له منه.
قوله تعالى: {بَشِيراً وَنَذِيراً}.
حال أخرى، من هذا الكتاب، تكشف عن موضوعه، بعد أن كشفت الحال الأولى: {قُرْآناً عَرَبِيًّا} عن صفته.. فهو بشير، ونذير، بشير لأهل الإيمان والتقوى، بالفوز برضوان اللّه، والخلود في جنات النعيم، ونذير للكافرين والضالين والمكذبين، نذير لهم بسخط اللّه، والخلود في نار الجحيم.
وقوله تعالى: {فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ}.
بيان لما تكشّفت عنه الحال من أمر هؤلاء الذين أنزل اللّه سبحانه عليهم هذه الرحمة، ومدّ مائدتها بين أيديهم.. {فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ} عنها، وأبى أن يمد يده إليها.. {فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} إذ قد أصموا آذانهم عن دعوة الداعي، فلم يلتفتوا إلى ما يدعون إليه من خير، وما يمدّ لهم من إحسان.
قوله تعالى: {وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ، وَفِي آذانِنا وَقْرٌ، وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ، فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ}.
الأكنّة: جمع كن، وهو ما يستكنّ فيه ويستتر عن الأعين، والوقر: الصمم.
ومن ضلال هؤلاء الضالين المعرضين عن دعوة الخير التي يدعوهم هذا القرآن إليها، على لسان النبي الكريم- أنهم أحكموا إغلاق الطرق والنوافذ، بينهم وبين هذا الرسول، فلم يدعوا منفذا تنفذ منه كلماته إليهم.
ولقد أحكموا إغلاق قلوبهم حتى إذا سمعت آذانهم شيئا من هذا القرآن- عرضا من غير قصد- لم تنفذ إلى قلوبهم، التي هى موطن الوعى والإدراك، ثم- زيادة في الاحتياط، وحراسة لآذانهم من أن يقع فيها شيء من القرآن عفوا- جعلوا بينهم وبين النبي حجابا، بالبعد عنه، واجتناب أىّ مكان يكون فيه، حتى يأمنوا أن تطرق كلمة من كلماته أسماعهم..!
وقد يبدو- في ظاهر الأمر- أن النظم الذي جاء عليه القرآن في ترتيب هذه المغالق- أنه قد جاء بها على غير الترتيب الطبيعي، الذي يألفه الناس، في التدبير لما يحرصون عليه، ويعملون على صيانته وحراسته، من الآفات، والعوارض التي تعرض له.. حيث يتجه الإنسان أول ما يتجه إلى إقامة سور حول بيته، ثم يتخير في داخل هذا السور المكان الذي يقيم فيه البيت، ثم يتخير من هذا البيت المكان الأمين الذي يحفظ فيه الغالي الثمين، مما يحرص عليه من مال ومتاع..! هكذا يبدو وجه التدبير في مثل هذه الحال.
ولكن القرآن الكريم، بدأ- كما نرى- من حيث انتهى التدبير البشرى.. فتحدث عن القوم بأنهم أحكموا إغلاق ما بداخلهم، قبل أن يحكموا إغلاق المنافذ الخارجية التي يمكن الوصول منها إلى هذا الذي في الداخل:
{وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ} فما سر هذا؟
السر في هذا- واللّه أعلم- هو أن القوم لم يكونوا مع القرآن الكريم في سعة من أمرهم، وفى فسحة من الوقت للاختيار، والتدبير.
فلقد كان لهم مع القرآن الكريم لقاء من قبل أن يحكموا أمرهم معه، ويلقوه بالتدبير الذي يرونه.. وكانت الكلمات التي سمعوها من القرآن الكريم ذات قوة نفاذة هزت قلوبهم من أقطارها، وكادت تستولى عليهم، وقد وقع كثير منهم تحت سلطانها القوىّ الآسر، وأحس الهزيمة تكاد تنزل به، وتحطم صخرة كبره وعناده.. فكان همه حينئذ أن يمسك قلبه، وأن يدفع عنه هذا الخطر الذي يتهدده.. إن المعركة هنا بينهم وبين النبي، وما دخل على قلوبهم من كلمات اللّه التي سمعوها منه.. وإذن فلتغلق هذه القلوب، ولتقم عليها حراسة قوية منهم.. {قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ}.
فهذه قلوبنا التي رميتها بما رميتها به من سهام، قد وضعناها في أكنّة من إرادتنا المتحدية، بما أصابها من جراح.. وإن الزمن لكفيل بأن تلتئم معه جراحها!.
هذا أول ما ينبغى أن يكون من القوم، في دفع هذا الخطر الذي دهمهم.. وهذا هو أول ما يكون ممن يدهمه خطر يتهدد وجوده أو يتهدد الشيء الذي يحرص عليه.. إن همه الأول هو الدفاع عن هذا الذي يتهدده الخطر منه، سواء أكانت حياته، أو كان متاعه! حتى إذا استشعر النجاة من هذا الخطر، كان له بعد ذلك أن ينظر في المنافذ الأخرى التي يهبّ عليه الخطر منها، فيبدأ بالقريب منها أولا، ثم بالذي يليه، وهكذا.
ومن هنا كان نظرهم بعد هذا إلى أقرب شيء يجىء منه الخطر إلى قلوبهم، وهى آذانهم، فأحكموا إغلاقها، ووضعوا عليها سدّا يحول بين الكلمات، وبين النفاذ منها إلى القلوب: {وَفِي آذانِنا وَقْرٌ}.
ثم كان التدبير بعد هذا، أن يبعدوا بأنفسهم- وما معهم من آذان وقلوب- عن مواطن الخطر جملة.. {وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ}.
فذلك هو الذي يقطع كل صلة بينهم وبين موطن الخطر..!
وقد جاء النظم القرآنى: {وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ} بزيادة حرف الجر {من} ولم يجىء: {وبيننا وبينك حجاب} وذلك للمبالغة في أن ما بينهم وبين النبي قد سدّ بحجاب كامل، ملأ المسافة التي بينهم وبين النبي، فكل ما بينهم وبين النبي حجاب غليظ كثيف.. ولو جاء النظم القرآنى:
{وبيننا وبينك حجاب} لما أدّى هذا المعنى، ولكان مفهوم الحجاب هنا أنه مجرد ستر بينهم وبين النبي!.
واقرأ الآية مرة أخرى، وانظر إليها نظرة مجدّدة، على ضوء هذا الفهم الذي فهمناها عليه.. وإنك لتجد لتلك الآية في هذا الترتيب إعجازا من إعجاز القرآن الكريم، وآية من الآيات التي تشهد له، بأنه من تنزيل من حكيم حميد.
{وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ.. وَفِي آذانِنا وَقْرٌ.. وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ}! فسبحان من هذا كلامه، وتلك آياته!.
وقوله تعالى: {فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ}.
لقد أمن القوم، أو هكذا خيّل إليهم أنهم قد أمنوا.. إذ قد فرّوا من وجه هذا النهار، ودفنوا رءوسهم في الرمال!.
{فاعمل} ما تشاء، واقرأ من قرآنك ما تقرأ.. فلن تجد لما تقرأ أذنا تسمع، أو قلبا يقع فيه شيء مما تقرأ {إننا عاملون}.
ولقد عملنا ما ترى، من إقامة هذه الحواجز بيننا وبينك.. فافعل ما شئت!.
قوله تعالى: {قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ}.
وما ذا يعمل النبي؟ إنه لا يملك شيئا لرفع هذه الحواجز التي أقاموها على أنفسهم، وإنه لن يستطيع أن يخرجهم من أجحارهم تلك التي دفنوا أنفسهم أحياء فيها.
وفى قوله تعالى: {إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} إشارة إلى خطأ ما يظنه المشركون في النبي، وأنه إنما يستعلى عليهم بما في يديه من هدى، وما يتلوه عليهم من آيات ربه.. فهو- صلوات اللّه وسلامه عليه- بشر مثلهم قبل كل شىء، وأن هذا الذي آتاه اللّه من فضله لن يخرجه عن بشريته.. إن الإنسان هو إنسان قبل كل شىء، وما يؤتاه من اللّه سبحانه، من بسطة في فى الجسم، أو سعة في الرزق، أو روعة في الجمال والحسن، أو نفاذ في البصيرة والإدراك- لن يخرجه ذلك عن أن يكون إنسانا.. وفى هذا عزاء للناس الذين لم يكن لهم حظ موفور، من هذا الذي مع غيرهم، من ماديات الحياة ومعنوياتها، إذ أنهم- لو عقلوا- لعلموا أنهم شركاء في هذا الذي يرون أنفسهم أنهم حرموا منه وهو البشرية.. إنه ملك الإنسانية كلها، يضاف إلى رصيدها، مما هو مرغوب فيه عندها.. كما أن ما في بعض الناس من نقص وعيب، هو مما يحسب على الإنسانية كلها، ومما تخفّ به موازينها.
وإذن، فإن الذي ينبغى أن يأخذ به الإنسان نفسه، ليكون عضوا في هذه الشركة العامة، هو أن يدخل فيها برصيد طيب، ما استطاع إلى ذلك سبيلا، حتى يأخذ بمقدار ما يعطى.. وإلا كان معتديا ظالما.
والنبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- هو بشر مثلهم، وقد أكرمه اللّه بهذا الرزق السماوي العظيم، الذي بين يديه من كتاب اللّه، والذي يدعو إليه الناس جميعا، ليشاركوه فيه، وليأخذوا ما استطاعوا حمله منه.. وإن الشقي من حرم نفسه من هذا الغذاء الذي هو حياة الأرواح، وغذاء العقول والقلوب.
وقوله تعالى: {يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ} هو صفة أخرى للنبى، إلى جانب صفته البشرية، وهو أنه رسول يوحى إليه من ربه، وأن موضوع هذا الوحى، هو تقرير وحدانية اللّه، وأنه لا إله إلا هو، وأن كل محامل الوحى هو تقرير هذه الحقيقة، وتأكيدها، والعمل في ظلها.
وقوله تعالى: {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ، وَاسْتَغْفِرُوهُ، وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ} هو تعقيب على هذه الحقيقة التي جاءت بها رسالة الرسول، ونزلت بها آيات اللّه، وحيا إليه من ربه.. {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ} أي اتجهوا إلى إلهكم الواحد دون أن تلتفتوا إلى وراء، أو يمين، أو شمال، نحو ما تعبدون من آلهة.. بل اجعلوا وجوهكم إلى اللّه وحده، واسعوا إليه في استقامة وجدّ {واستغفروه} لما كان منكم من ضلال عنه، وشرك به.
وقوله تعالى: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ} وعيد للمشركين الذين يمسكون بشركهم، ولا يتحولون عنه إلى الإيمان باللّه وحده.. وهو معطوف على محذوف، تقديره: فإن استقمتم واستغفرتم ربكم، غفر لكم ونجاكم من عذابه، والويل للمشركين الذين لا يتحولون عن شركهم.
قوله تعالى: {الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ، وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ} هو وصف لهؤلاء المشركين، الذين تهددهم اللّه سبحانه وتعالى بالويل، وسوء المصير.
وفى اختيار عدم إتيان المشركين الزكاة، وجعلها الصفة البارزة فيهم- ما يسأل عنه، وهو: كيف تكون الزكاة المعلم الأول للإيمان باللّه، حتى يكون عدم أدائها المعلم البارز من معالم المشركين؟ ثم كيف يكون هذا شأن الزكاة في هذه المرحلة من الدعوة، التي لم تكن الزكاة قد فرضت فيها على المسلمين، إذ أن السورة مكية، والآية مكية كذلك، والزكاة إنما فرضت في المدينة! فكيف هذا؟
والجواب- واللّه أعلم- من وجوه:
فأولا: ليس المراد بالزكاة، هو الزكاة المفروضة، وإنما المراد بها الإنفاق في سبيل اللّه، وفى وجوه الخير ابتغاء وجه اللّه.. فكل ما ينفق في سبيل اللّه وابتغاء وجه اللّه، هو زكاة، وطهرة للمنفق.
وثانيا: أن الزكاة بهذا المعنى لم تجىء صفة أصلية، وإنما جاءت حالا من أحوال الذين لا يؤمنون بالآخرة.. {الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ، وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ}.
فهذه الحال- وهى عدم إيمان المشركين بالآخرة- هى التي جعلتهم لا يؤتون الزكاة.. فلو أنهم كانوا يؤمنون بالآخرة، لأعدوا لها عدتها ولسخت أيديهم بالإنفاق في وجوه الخير، ليكون لهم من ذلك زادا ما يتزودون به لهذا اليوم.
وثالثا: أن الإتيان للزكاة، يشمل الإتيان لكل طيب، ولكل ما يتطهر به الإنسان، ويزكو، ولا طهر ولا زكاة، مع الشرك.. فيكون من المعاني التي يشير إليها قوله تعالى: {الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ} أي الذين لا يؤمنون باللّه.
ويكون {الإتيان} هنا بمعنى التسليم، وإعطاء الولاء للّه ولرسول اللّه.. ويروى عن ابن عباس في هذا: {أنهم لا يقولون: لا إله إلا اللّه}.
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ}.
هو في مقابل قوله تعالى: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ}.
فإذا كان الويل للمشركين الذين لا يؤمنون باللّه ولا باليوم الآخر فإن الثواب العظيم، والجزاء الكريم للذين آمنوا وعملوا الصالحات.. فهؤلاء لهم أجر غير ممنون.. أي جزاء حسن، متصل لا ينقطع أبدا حيث جنات النعيم، هم، فيها خالدون.


{قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (11) فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)}.
التفسير:
قوله تعالى: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ، وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ.. وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها، وَبارَكَ فِيها، وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ}.
بعد أن تهددت الآيات السابقة المشركين الذين لا يؤمنون باللّه ولا باليوم الآخر- جاءت هذه الآيات لتلقاهم بما للّه سبحانه وتعالى من علم وقدرة وسلطان، حتى يكون لهم من ذلك ما يفتح مغالق عقولهم، فينظروا إلى جلال اللّه، ثم لينظروا إلى آلهتهم على سنا هذا الجلال، ثم ليحكموا عليها، ما ذا تكون هذه الدّمى إزاء ربّ الأرباب، خالق الأرض والسموات! وفى قوله تعالى: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ.
الآية}.
تهديد لهؤلاء المشركين، الذين يكفرون باللّه، ويعبدون هذى الدّمى الجاثمة على التراب! والاستفهام إنكارى.. أي ما كان لكم أن تكفروا يمن هذه قدرته، وتلك آثاره.
وفى قوله تعالى: {خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ} قلنا في أكثر من موضع في تفسيرنا للآيات التي تشير إلى زمن محدّد لما خلق اللّه من مخلوقات، مثل قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [54: الأعراف]- قلنا إن هذا الزّمن إنما هو منظور فيه إلى طبيعة المخلوق لا إلى قدرة الخالق.. وإلى أن هذا الزمن، هو الذي قدّره الخالق سبحانه وتعالى لينضج فيه المخلوق، ويستوفى فيه تمام خلقه، كالجنين في الرحم، حيث يتم تكوينه في تسعة أشهر، في عالم الإنسان، وفى زمن أقل أو أكثر في العوالم الأخرى من الأحياء.. فالزمن جزء من وجود كلّ موجود، وفى تطوره من حال إلى حال.. سواء في هذا، الحيوان، والنبات، والجماد.
فقوله تعالى: {خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ.. وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ}.
.. إشارة إلى الزمن الذي نضجت فيه الأرض، وتمّ تكوينها، وتهيأت لاستقبال الحياة فيها.
والأيام هنا هى أيام اللّه.. أي الأيام التي يحويها فلك هذا الوجود، فكل فلك له زمن معلوم، تتم فيه دورته، وتلك الدورة هى يوم، كيوم عالمنا الأرضى.. ففى يومين من أيام اللّه.. ولا يعلم قدر هذا اليوم إلا اللّه- ثمّ تكوين جرم الأرض، فكانت أشبه بالعلقة في رحم الأم.
ثم بعد ذلك بدأت تظهر عليها الجبال، وتجرى فيها الأنهار، وتتحدد عليها كميات الهواء، والحرارة، إلى أن أصبحت صالحة لأن تلد الكائنات الحيّة، وأن تمدّها بالغذاء الذي يحفظ عليها حياتها.. وذلك في مدى يومين آخرين من أيام اللّه.. فكانت حضانة الأرض في كيان الكون أربعة أيام، من أيام اللّه، قبل أن تتهيأ لاستقبال الحياة، وظهور الكائنات الحية على ظهرها.
وقوله تعالى: {وَبارَكَ فِيها} إشارة إلى توالد الأحياء على الأرض، وتكاثرها بما توالد فيها من عوالم النبات والحيوان والإنسان.
فهذا من بركة اللّه سبحانه وتعالى على هذه الأرض! وقوله تعالى: {وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها}.
أي وقدّر على هذه الأرض الأقوات التي تضمن الحياة لهذه المواليد المتكاثرة فيها.. وذلك بما أودع فيها من هواء، وماء، وطعام.
وقوله تعالى: {سَواءً لِلسَّائِلِينَ} هو حال من الأقوات، أي أن هذه الأقوات مقدّرة بقدر معلوم، وموزونة بميزان دقيق.. فالهواء مثلا، لو زادت نسبة الأوكسجين فيه عن قدر معلوم لاحترق الأحياء، ولو نقصت تلك النسبة عن قدر معلوم كذلك لاختنق الناس والحيوان والنبات.. وهكذا كلّ ما في هذه الأرض، وما عليها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ} [19: الحجر] والسائلون هنا، هم أصناف الأحياء، الذين يسألون، أي يطلبون ما يمسك عليهم حياتهم.. فكل حىّ يسأل، ويطلب ما تطلبه حياته، سواء أكان هذا إنسانا أو حيوانا أو نباتا.
وفى التعبير بالسائلين، إشارة إلى أن هذه المخلوقات- ومنها الإنسان- إنما تقف جميعها سائلة من فضل اللّه وإحسانه، الذي بثّه في هذه الأرض.
هذا، وقد رأى بعض المفسرين أن مدة خلق الأرض هى ستة أيام، أخذا بما ذكر في هذه الآية، من اليومين، والأربعة الأيام.. ولما كانت مدة خلق السموات يومين، فتكون مدة خلق السموات والأرض، هى ثمانية أيام.. والقرآن الكريم صريح الدلالة في أن خلق السموات والأرض كان في ستة أيام، وذلك بما نطق به في أكثر من موضع منه.
ولا يمكن أن يقع هذا الاختلاف في كتاب اللّه.. {وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً}.
والذي ينظر في قوله تعالى: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ} الذي ينظر في هاتين الآيتين، يرى أن مدة خلق الأرض هى أربعة الأيام، وهى التي ذكرت في الآية الثانية، ويدخل فيهما اليومان اللذان ذكرا في الآية الأولى.. ولهذا عطف قوله تعالى: {وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ} على قوله تعالى: {خَلَقَ الْأَرْضَ}.
أي خلقها وجعل فيها رواسى من فوقها وبارك فيها وقدّر فيها أقواتها في أربعة أيام.. منهما يومان كان فيهما خلق جرم الأرض.. أما ذكر اليومين فللدلالة على أن الخلق غير الجعل.
فخلق الأرض، كان له زمن تمّ فيه هذا الخلق.. ثم كان لتلك الإضافات التي دخلت على الأرض بعد خلقها، زمن آخر، ومجموع هذا وذاك هو أربعة أيام من أيام اللّه.. وهذا مثل قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} [15: الأحقاف] وقوله في آية أخرى: {وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ} [14: لقمان].
قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ}.
استوى إلى السماء، أي نظر إلى السماء، نظر تمكن واستعلاء.
وهى دخان: أي بخار.
أي أنه بعد أن تمّ خلق الأرض، وتهيأت لاستقبال الحياة، بعد هذا نظر سبحانه وتعالى إلى السماء، نظرة تمكن واستعلاء، وكانت دخانا، أي بخارا غير متماسك، {فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ} أي دعا الأرض والسماء أن يأتياه، أي يستجيبا له، ويخضعا لمشيئته، ويستقيما على ما أراد منهما، إما طائعتين أو مكروهتين أي أن تأتيا إما مستسلمتين بلا إرادة، أو مكرهتين، فتكون إرادتهما تبعا لإرادة اللّه سبحانه وتعالى: {قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ} أي مستسلمين، دون أن نخرج على النظام الذي أقمتنا عليه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ} [72: الأحزاب].. فقد خيرت السموات والأرض في أن تأتيا طوعا أو كرها، فاختارتا أن تأتيا طائعتين، وذلك معناه، إباؤهنّ قبول الأمانة التي عرضت عليهن، وتلك الأمانة هى أن يوكل إليهن تصريف شئونهن بإرادتهن.. فأبين ذلك، وأسلمن الأمر كله للّه.
أما الإنسان، فهو وحده الذي حمل الأمانة، وهو الذي يأتى ما أراد اللّه منه سواء أكان طائعا أو عاصيا، لأن إرادة اللّه تعلو إرادته، وكل ما يفعله الإنسان وإن كان بإرادته، هو من إرادة اللّه له، ومشيئته فيه.
فهو مكره في صورة مريد!.
قوله تعالى: {فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}.
أي فدبّر أمرهن وقضى فيهن بما شاءت إرادته، فكنّ سبع سموات.
والضمير في {قضاهن} هو للسبع السموات، وقد قدم الضمير هنا للدلالة على أن التدبير والقضاء قد وقع عليهن بعد أن خلقن، وكنّ سموات سبعا.. فالضمير يعود إلى وجود قائم، وإن لم يجر له ذكر، وذلك أدل على وجوده وتحققه.. وسبع سموات بدل من هذا الضمير، كما تقول:
أكرمته عليا، وأكلته عنبا.
وقوله تعالى: {وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها} أي أوحى، وأنزل في كل سماء ما أمرها به، وما قدره لها من نظام تجرى عليه.
وقوله تعالى: {وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً}.
السماء الدنيا، هى السماء التي تعلو هذه الأرض، وهى السماء الأولى، وفوقها بقية السموات.
والمصابيح، هى الشمس، والقمر، والنجوم، التي تظهر ليلا، فتبدو وكأنها معالم زينة في هذا السقف المطلّ على العالم الأرضى.
وقوله تعالى: {وَحِفْظاً} معطوف على محذوف، هو مفعول لأجله، وتقديره {زينة} أي زينا السماء الدنيا بمصابيح للزينة والحفظ، أو زينة، وحفظا.
والحفظ، هو ما تقوم به النجوم من حراسة السماء من الشياطين، إذا أرادوا التسمع لما في الملأ الأعلى، كما يقول سبحانه: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ} [5: الملك] وقوله تعالى: {ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} أي هذا النظام الذي قام عليه الوجود في أرضه وسماواته، هو من تدبير {العزيز}، أي ذى العزة والقوة {العليم} الذي يحيط علمه بكل شىء.. فلا يقضى بأمر إلا عن علم كاشف لكل أمر.


{فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (14) فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ (16) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (18)}.
التفسير:
قوله تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ}.
أي فإن أعرض هؤلاء المشركون، بعد أن عرضت عليهم هذه الآيات، ونصبت لهم تلك المعالم الدالة على قدرة اللّه، وعلى تفرده- سبحانه- بالملك والسلطان- إن أعرضوا فقل لهم منذرا: إنى أتوعدكم بعذاب اللّه، وأن يحلّ بكم ما حل بعاد وثمود من قبلكم، وقد رماهم اللّه بالصواعق فأهلكوا، فلم تبق منهم باقية.
روى أن قريشا- وقد ضاقت بالنبي، وبدعوته- جاءت إلى النبي تعده وتمنّيه، وتعرض عليه ما قدّرت أنه يطلبه من هذه الدعوة القائم عليها، من مال وسلطان، فانتدبت لذلك عتبة بن ربيعة، فجاء عتبة إلى النبي، يقول له: إنك قد أحدثت في قومك ما ترى من فرقة وشقاق، فإن كنت تطلب مالا جمعنا لك من أموالنا ما تشاء حتى تكون أكثر رجال قريش مالا، وإن كنت تريد ملكا ملّكناك علينا، وإن كنت تريد وتريد.. فلك عندنا ما تريد، على أن تدع آلهتنا، ولا تعرض لها بذكر! فقال له النبي صلوات اللّه وسلامه عليه: وقد قلت، فاسمع منّى، فقال هات:
فقرأ عليه النبي- صلوات اللّه وسلامه عليه-: {حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}.
.. حتى إذا بلغ النبي قوله تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ} فزع عتبة واضطرب، وقام فوضع يده على فم الرسول الكريم، خوفا من أن يقع هذا النذير به وبقومه..!
إن القوم كانوا يعرفون صدق النبي، ولكنهم كانوا يكابرون ويعاندون، ويأبى عليهم كبرهم وعنادهم أن يذعنوا للحق.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [33: الأنعام].
قوله تعالى: {إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ}.
{إذ} ظرف، هو قيد للوقت الذي وقعت فيه الواقعة بعاد وثمود.
فالصواعق التي رموا بها إنما كانت بعد أن جاءتهم رسلهم بالبينات، فكذبوهم، وأعرضوا عنهم.
وقوله تعالى: {مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ} أي جاءوهم من كل ناحية، والتقوا بهم بكل سبيل.
وقوله تعالى: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} أي أن رسلهم التقوا بهم من كل وجه بهذه الدعوة، يعرضونها عليهم، ويقيمون لهم الحجج عليها، وهى ألا يعبدوا إلا اللّه.
وقوله تعالى: {قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ}.
هو بيان لما استقبل به القوم دعوة الرسل، وهو أنهم ردوهم، وكذبوهم، وقالوا: ما أنتم إلا بشر مثلنا، تريدون أن تتفضلوا علينا، ولو شاء ربنا أن يبعث رسلا لبعث ملائكة من عنده، فهم أولى بهذا الأمر منكم، وهم أهل لأن نقبل منهم، وتصدق أنهم رسل من عند اللّه، وإذن فنحن بما أرسلتم به كافرون.. لا نقبل منكم ما جئتم به، ولا نصدقه.
قوله تعالى: {فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً؟ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ}.
هو بيان كاشف لما كان عليه القوم من ضلال، حتى عمّيت عليهم السبل إلى اللّه، واستبد بهم منطق سفيه.
فهؤلاء عاد.. استكبروا في الأرض، وتطاولوا على العباد، بغير الحق، إذ لم يكونوا أهلا لما رأوا في أنفسهم من هذا الرأى الفاسد، وهم غارقون في هذا الضلال.. لقد غرتهم هذه القوة الجسدية الحيوانية التي وجدوها في كيانهم، فطاروا بها فرحا وزهوا، وقالوا: من أشد منا قوة؟
إنها القوة الجسدية وحدها، هى التي يملكونها.. فما ذا عندهم من تلك القوة؟
أو لم يروا أنهم مخلوقون من هذا التراب؟ أولم يروا أن اللّه الذي خلقهم هو أشد منهم قوة، إن كانوا لا يرون في مخلوقات اللّه، من هو أشد منهم قوة؟ إنهم لو نظروا لوجدوا أن قوتهم تلك لا وزن لها بين تلك القوى الهائلة التي يرونها في مخلوقات اللّه.. فكيف بقوة اللّه سبحانه وتعالى؟
وفى قوله تعالى: {وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ} هو معطوف على قوله تعالى: {وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً}.
ويصح أن يكون معطوفا على محذوف هو جواب لهذا الاستفهام الإنكارى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً}؟ أي لم يروا هذا ولم ينظروا فيه {وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ}.
قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ}.
هذا مصير عاد، وتلك عاقبة تكذيبهم لرسلهم وكفرهم بآيات اللّه لقد أرسل اللّه سبحانه وتعالى عليهم ريحا صرصرا، أي شديدة عاتبة، ذات صرير وزئير.. {فى أيام نحسات} أي في أيام طلعت عليهم بالشؤم، والبلاء، على حين طلعت على غيرهم بالعافية والخير.. وذلك {لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا} حين يعصف بهم هذا البلاء، وتقهرهم الريح، التي كانت تهب عليهم نسيما عليلا، وتصفعهم هذه الصفعة التي تذل كبرياءهم وتفضح قوتهم، وهى خلق ضعيف ليّن، من خلق اللّه!.
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى في موضع آخر: {وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ} [5- 8: الحاقة].
{وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى} أي والعذاب الذي ينتظرهم في الآخرة أشد خزيا لهم، وأوقع نكاية بهم من هذا العذاب الدنيوي.. إن هذا العذاب الدنيوي ما هو إلا جرعة يتجرعونها قبل أن يعبوا عبّا من عذاب يوم القيامة {وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ} بقوتهم تلك التي طغووا بها، ولا بأية قوة أخرى يستنصرون بها.
{وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ}.
وهذه ثمود.. هداهم اللّه، أي دعاهم إلى الهدى، ونصب لهم معالمه بما بعث فيهم من رسول كريم، يحمل بين يديه أقباس الهدى والنور، فأغمضوا أعينهم، واستحبوا العمى على الهدى، ومضوا في ظلمات يتخبطون.
{فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ} أي رماهم اللّه بصاعقة من عذاب، أذلّهم بها، وجعلهم عبرة ومثلا للظالمين المكذبين، جزاء ما كسبوا من سيئات، وما لجوا فيه من ضلال.
قوله تعالى: {وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ}.
أي أنه حين أخذ العذاب هؤلاء المكذبين الضالين، نجى اللّه الذين آمنوا، وكانوا يتقون اللّه، ويخشون بأسه، فلم يصبهم من هذا المكروه شىء، بل سلموا من كل سوء.

1 | 2 | 3